فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

القول فيه نظير القول في أمثاله من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور‏.‏ فهو حرف من حروف التهجّي وقد رسموه في المصحف بصورة حرف القاف التي يُتَهجى بها في المكتب، وأجمعوا على أن النطق بها باسم الحَرف المعروف، أي ينْطِقون بقاففٍ بعدها ألف، بعده فاء‏.‏ وقد أجمع من يعتدّ به من القراء على النطق به ساكِنَ الآخِر سكون هجاء في الوصل والوقِف‏.‏

ووقع في رواية بعض القصاصين المكذوبة عن ابن عباس أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ق‏}‏ اسم جبل عظيم محيط بالأرض‏.‏ وفي رواية عنه إنه اسم لكل واحد من جبال سبعة محيطة بالأرضين السبع واحداً وراء واحد كما أن الأرضين السبع أرض وراء أرض‏.‏ أي فهو اسم جنس انحصرت أفراده في سبعة، وأطالوا في وصف ذلك بما أملاه عليهم الخيال المشفوع بقلة التثبت فيما يروونه للإغراب، وذلك من الأوهام المخلوطة ببعض أقوال قدماء المشرقيين وبسوء فهم البعض في علم جغرافية الأرض وتخيلهم إياها رقاعاً مسطحة ذات تقاسيم يحيط بكل قسم منها ما يفصله عن القسم الآخر من بحار وجبال، وهذا مما ينبغي ترفع العلماء عن الاشتغال بذكره لولا أن كثيراً من المفسرين ذكروه‏.‏

ومن العجب أن تفرض هذه الأوهام في تفسير هذا الحرف من القرآن ‏{‏ألم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏، يكفهم أنه مكتوب على صورة حروف التهجّي مثل ‏{‏آلم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏المص‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏كهيعص‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 1‏]‏ ولو أريد الجبل الموهوم لكتب قاف ثلاثة حروف كما تكتب دَوَالُّ الأشياء مثل عين‏:‏ اسم الجارحة، وغينش‏:‏ مصدر غان عليه، فلا يصح أن يدل على هذه الأسماء بحروف التهجّي كما لا يخفى‏.‏

‏{‏ق والقرءان المجيد * بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَئ عَجِيبٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابَاً ذلك رَجْعٌ بَعِيدٌ‏}‏‏.‏

قَسَم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسِم فكان التعظيم من لوازم القسَم‏.‏ وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف ‏{‏القرآن‏}‏ ب ‏{‏المجيد‏}‏ فالمجيد المتصف بقوة المجْد‏.‏ والمجدُ ويقال المجادة‏:‏ الشرف الكامل وكرم النوع‏.‏

وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده‏.‏ وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغَه الله للناس من أنواع الكلام الدالّ على مراد الله تعالى إذْ أوْجدَ ألفاظَه وتراكيبه وصورةَ نظمه بقدرته دون واسطة، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبّرون بكلامهم عما يُلقَى إليهم من الوحي‏.‏

ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة، ومثل ما أُوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القُدُسيّ، فإن القرآن يفوق ذلك كله لمّا جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزاً لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه‏.‏

ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها، وأيضاً بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما يُنسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضُه‏.‏

وجواب القَسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداءُ السورة بحرف ‏{‏ق‏}‏ المشعر بالنداء على عجزهم عنْ معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله‏:‏ ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏‏.‏

والتقدير‏:‏ والقرآننِ المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 1 4‏]‏‏.‏ أو يقدر الجواب‏:‏ إنه لتنزيل من ربّ العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو ‏{‏حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1 3‏]‏ ونحو ذلك‏.‏ والإضراب الانتقالي يقتضي كلاماً منتقلاً منه والقَسم بدون جواب لا يعتبر كلاماً تاماً فتعين أن يقدِّر السامع جواباً تتم به الفائدة يدل عليه الكلام‏.‏

وهذا من إيجاز الحذف وحسَّنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه، أي عدِّ عما تريد تقديره من جواب وانتقِلْ إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القَسَم كقول القائل‏:‏ دَعْ ذا، وقول امرئ القيس‏:‏

فدع ذا وسَلِّ الهمَّ عنك بجسرة ذَمُول إذَا صَام النهارُ وهجَّرا *** وقول الأعشى‏:‏

فدع ذَا ولكن رُبّ أرض مُتيهة قطعتُ بحُرْجُوج إذا الليل أظلما *** وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل الذين كفروا في عزة وشقاق‏}‏ في سورة ص ‏(‏2‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ وعجبوا‏}‏ خبر مستعمل في الإنكار إنكاراً لعجبهم البالغ حدّ الإحالة‏.‏ و‏{‏عجبوا‏}‏ حصل لهم العجَب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص ‏{‏قالت يا وَيْلَتَا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لَشَيْء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72، 73‏]‏ فإن الاستفهام في ‏{‏أتعجبين‏}‏ إنكار وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجّب‏.‏ فالمعنى هنا‏:‏ أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشراً مثلهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏عجبوا‏}‏ عائد إلى غير مذكور، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجّي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان المَلك فإن المتحدَّيْن بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضاً يعلمون أنهم المعنيون بالتحدّي بالإعجاز‏.‏

على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله‏:‏ ‏{‏فقال الكافرون‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏منهم‏}‏ عائد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏عجبوا‏}‏ والمراد‏:‏ أنه من نوعهم أي من بني الإنسان‏.‏ و‏{‏أن جاءهم‏}‏ مجرور ب ‏(‏من‏)‏ المحذوفة مع ‏{‏أنْ‏}‏، أي عجبوا من مجيء منذر منهم، أو عجبوا من ادعاء أن جاءهُمْ منذر منهم‏.‏

وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف ‏{‏منذر‏}‏ وهو المخبِر بشَرّ سيكون للإيماء إلى أن عَجَبهم كان ناشئاً عن صفتين في الرسول صلى الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه، وإنما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يديْ عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والثانية كونه من نوع البشر‏.‏

وفُرِّعَ على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذِكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله‏:‏ ‏{‏فقال الكافرون هذا شيء عجيب‏}‏ الآية‏.‏ وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبْعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحد من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بصفة ‏{‏منذر‏}‏ قبل وصفه بأنه ‏{‏منهم‏}‏ ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوَّى الاستبعاد والتعجّب‏.‏

ثم إن ذلك يُتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏قد علِمْنا مَا تنقصُ الأرض منهم إلى قوله‏:‏ كذلك الخروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 4 11‏]‏‏.‏ فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة‏:‏ منها إيجاز الحذف، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير ب ‏{‏منذر‏}‏، ومنها إقحام وصفه بأنه ‏{‏منهم‏}‏ لأن لذلك مدخلاً في تعجبهم، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضَى الظاهر، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله‏:‏ ‏{‏هذا شيء عجيب أئذا متنا‏}‏ الخ‏.‏

وعبُر عنهم بالاسم الظاهر في ‏{‏فقال الكافرون‏}‏ دون‏:‏ فقالوا، لتوسيمهم فإن هذه المقالة من آثار الكفر، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين‏.‏

والإشارة بقولهم ‏{‏هذا شيء عجيب‏}‏ إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبيء صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرَّجْع، أي البعث وهو الذي بينتْه جملة ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً‏}‏ إلخ‏.‏

والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به‏.‏ وجعلوا مناطَ التعجيب الزمانَ الذي أفادته ‏(‏إذا‏)‏ وما أضيف إليه، أي زمنَ موتنا وكونِنا تراباً‏.‏

والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً‏}‏ والتقدير‏:‏ أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته تراباً، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد‏.‏ ومتعلقّ ‏(‏إذا‏)‏ هو المستفهم عنه المحذوف المقدَّر، أي نُرجَع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك رجع بعيد‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏أئذا متنا وكنا تراباً‏}‏ بطريق الحقيقة والذِكر، بعد أن أُفيد بطريق المجاز والحذف، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة‏.‏

والرَّجع‏:‏ مصدر رجَع، أي الرجوع إلى الحياة‏.‏ ومعنى ‏{‏بعيد‏}‏ أنه بعيد عن تصور العقل، أي هو أمر مستحيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ردٌّ لقولهم‏:‏ ‏{‏ذلك رجع بعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 3‏]‏ فإن إحالتهم البعث ناشئة عن عدة شبه منها‏:‏ أن تفرق أجزاء الأجساد في مناحِي الأرض ومهابّ الرياح لا تُبقي أملا في إمكان جمعها إذ لا يحيط بها محيط وأنها لو علمت مواقعها لتعذر التقاطها وجمعها، ولو جمعت كيف تعود إلى صورها التي كانت مشكَّلة بها، وأنها لو عادت كيف تعود إليها، فاقتصر في إقلاع شبههم على إقلاع أصلها وهو عدم العلم بمواقع تلك الأجزاء وذرّاتها‏.‏

وفُصِلت الجملة بدون عطف لأنها ابتداء كلام لرد كلامهم، وهذا هو الأليق بنظم الكلام‏.‏ وقيل هي جواب القسم كما علمته آنفا وأيًّا مَّا كان فهو رد لقولهم ‏{‏ذلك رجع بعيد‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن جمع أجزاء الأجسام ممكن لا يعزب عن علم الله، وإذا كان عالماً بتلك الأجزاء كما هو مقتضى عموم العلم الإلهي وكان قد أراد إحياء أصحابها كما أخبر به، فلا يعظم على قدرته جمعها وتركيبها أجساماً كأجسام أصحابها حين فارقوا الحياة فقوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏}‏ إيماء إلى دليل الإمكان لأن مرجعه إلى عموم العلم كما قلنا‏.‏ فأساس مبنى الرد هو عموم علم الله تعالى لأن يجمع إبطال الاحتمالات التي تنشأ عن شبهتهم فلو قال، نحن قادرون على إرجاع ما تنقص الأرض منهم لخطر في وساوس نفوسهم شبهة أن الله وإن سلمنا أنه قادر فإن أجزاء الأجساد إذا تفرقت لا يعلمها الله حتى تتسلط على جمعها قدرتُه فكان البناء على عموم العلم أقطع لاحتمالاتهم‏.‏

واعلم أن هذا الكلام بيان للإمكان رعيا لما تضمنه كلامهم من الإحالة لأن ثبوت الإمكان يَقلع اعتقاد الاستحالة من نفوسهم وهو كاف لإبطال تكذيبهم ولاستدعائهم للنظر في الدعوة، ثم يبقى النظر في كيفية الإعادة، وهي أمر لم نكلف بالبحث عنه وقد اختلف فيها أيمة أهل السنة فقال جمهور أهل السنة والمعتزلة تعاد الأجسام بعد عدمها‏.‏ ومعنى إعادتها‏.‏ إعادة أمثالها بأن يخلق الله أجساداً مثل الأولى تودع فيها الأرواح التي كانت في الدنيا حالّة في الأجساد المعدومة الآن فيصير ذلك الجسم لصاحب الروح في الدنيا وبذلك يحق أن يقال‏:‏ إن هذا هو فلان الذي عرفناه في الدنيا إذ الإنسان كان إنساناً بالعقل والنطق، وهما مَظهر الروح‏.‏ وأما الجسد فإنه يتغير بتغيرات كثيرة ابتداء من وقت كونه جنينا، ثم من وقت الطفولة ثم ما بعدها من الأطوَار فتخلف أجزاؤُه المتجددة أجزاءَه المتقضيّة، وبرهان ذلك مبيّن في علم الطّبيعيات، لكن ذلك التغير لم يمنع من اعتبار الذات ذاتا واحدة لأن هُوية الذات حاصلة من الحقيقة النوعية والمشخصات المشاهدة التي تتجدد بدون شعور مَن يشاهدها‏.‏ فلذا كانت حقيقة الشخص هي الروح وهي التي تُكتسَى عند البعث جسد صاحبها في الدنيا، فإن الناس الذين يموتون قبل قيام الساعة بزمن قليل لا تَبلى في مثله أجسامهم تُرجَّع أرواحهم إلى أجسادهم الباقية دون تجديدِ خلقها، ولذلك فتسمية هذا الإيجاد معاداً أو رجْعاً أو بعثاً إنما هي تسمية باعتبار حال الأرواح، وبهذا الاعتبار أيضاً تشهد على الكفار ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون لأن الشاهد في الحقيقية هو ما به إدراك الأعمال من الروح المبثوثة في الأعضاء‏.‏

وأدلة الكتاب أكثرها ظاهر في تأييد هذا الرأي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏، وفي معناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلّما نضِجت جلودهم بدّلْنَاهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وقال شذوذ‏:‏ تُعاد الأجسام بجمع الأجزاء المتفرقة يجمعها الله العليم بها ويركبها كما كانت يوم الوفاة‏.‏ وهذا بعيد لأن أجزاء الجسم الإنساني إذا تفرقت دخلت في أجزاء من أجسام أخرى من مختلف الموجودات ومنها أجسام أناس آخرين‏.‏ وورد في الآثار ‏"‏ أن كل ابن آدم يفنى إلاّ عجْب الذنب منه خُلق ومنهُ يركب ‏"‏ رواه مسلم‏.‏ وعلى هذا تكون نسبة الأجساد المعادة كنسبة النخلة من النواة‏.‏ وهذا واسطة بين القول بأن الإعادة عن عدم والقول بأنها عن تفرق‏.‏ ولا قائل من العقلاء بأن المعدوم يعاد بعينه وإنما المراد ما ذكرنا وما عداه مجازفة في التعبير‏.‏

وذكر الجلال الدواني في «شرح العقيدة العضدية» أن أبَيَّ بن خلف لما سمع ما في القرآن من الإعادة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظم قد رمَّ ففتته بيده وقال‏:‏ يا محمد أتُرَى يحييني بعد أن أصير كهذا العظم‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نعم ويبعثك ويدخلك النار ‏"‏‏.‏ وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يُحْيي العظام وهي رميم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وعُبر ب ‏{‏تنقص الأرض‏}‏ دون التعبير بالإعدام لأن للأجساد درجات من الاضمحلال تَدخل تحت حقيقة النقص فقد يفنى بعض أجزاء الجسد ويبقى بعضه، وقد يأتي الفناء على جميع أجزائه، على أنه إذا صح أن عَجْب الذنب لا يفني كان فناء الأجساد نقصاً لا انعداماً‏.‏

وعطف على قوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وعندنا كتاب حفيظ‏}‏ عطف الأعم على الأخص، وهو بمعنى تذييل لجملة ‏{‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏}‏ أي وعندنا علمٌ بكل شيء علماً ثابتاً فتنكير ‏{‏كتاب‏}‏ للتعظيم، وهو تعظيم التعميم، أي عندنا كتاب كل شيء‏.‏

و ‏{‏حفيظ‏}‏ فعيل‏:‏ إما بمعنى فاعل، أي حافظ لما جعل لإحصائه من أسماء الذوات ومصائرها‏.‏ وتعيين جميع الأرواح لذواتها التي كانت مودعَة فيها بحيث لا يفوت واحد منها عن الملائكة الموكلين بالبعث وإعادة الأجساد وبث الأرواح فيها‏.‏ وإمّا بمعنى مفعول، أي محفوظ ما فيه مما قد يعتري الكتب المألوفة من المحو والتغيير والزيادة والتشطيب ونحو ذلك‏.‏

والكتاب‏:‏ المكتوب، ويطلق على مجموع الصحائف‏.‏ ثم يجوز أن يكون الكتاب حقيقة بأن جعل الله كتباً وأودعها إلى ملائكة يسجّلون فيها الناس حين وفياتهم ومواضع أجسادهم ومقارّ أرواحهم وانتساب كل روح إلى جسدها المعيّن الذي كانت حالّة فيه حال الحياة الدنيا صادقاً بكتب عديدة لكل إنسان كتابُه، وتكون مثل صحائف الأعمال الذي جاء فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17، 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفَى بنفسك اليوم عليك حسيبا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13، 14‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون مجموع قوله‏:‏ ‏{‏وعندنا كتاب‏}‏ تمثيلاً لعلم الله تعالى بحال علم من عنده كتاب حفيظ يعلم به جميع أعمال الناس‏.‏

والعندية في قوله‏:‏ ‏{‏وعندنا كتاب‏}‏ مستعارة للحياطة والحفظ من أن يتطرق إليه ما يغيّر ما فيه أو من يبطل ما عيّن له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

إضراب ثان تابع للإضراب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 2‏]‏ على طريقة تكرير الجملة في مقام التنديد والإبطال، أو بدل من جملة ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر‏}‏ لأن ذلك العجب مشتمل على التكذيب، وكلا الاعتبارين يقتضيان فصل هذه الجملة بدون عاطف‏.‏ والمقصد من هذه الجملة‏:‏ أنهم أتوا بأفظع من إحالتهم البعث وذلك هو التكذيب بالحق‏.‏

والمراد بالحق هنا القرآن لأن فعل التكذيب إذا عدي بالباء عدي إلى الخبر وإذا عدي بنفسه كان لتكذيب المخبر‏.‏

و ‏{‏لمّا‏}‏ حرف توقيت فهي دالة على ربط حصول جوابها بوقت حصول شرطها فهي مؤذنة بمبادرة حصول الجواب عند حصول الشرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏، وقوله ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ وقد مضيا في سورة البقرة‏.‏ ومعنى ‏{‏جاءهم‏}‏ بلغهم وأعلموا به‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم بادروا بالتكذيب دون تأمل ولا نظر فيما حواه من الحق بل كذبوا به من أول وهلة فكذبوا بتوحيد الله، وهو أول حق جاء به القرآن، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأحيينا به بلدة ميتا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6 11‏]‏‏.‏ فالتكذيب بما جاء به القرآن يعمّ التكذيب بالبعث وغيره‏.‏

وفرع على الخبر المنتقل إليه بالإضراب وصفُ حالهم الناشئة عن المبادرة بالتكذيب قبل التأمل بأنها أمر مريج أحاط بهم وتجلجلوا فيه كما دل عليه حرف الظرفية‏.‏

و ‏{‏أمر‏}‏ اسم مبهم مثل شيء، ولما وقع هنا بعد حرف ‏{‏في‏}‏ المستعمل في الظرفية المجازية تعين أن يكون المراد بالأمر الحالُ المتلبسون هم به تلبُّس المظروف بظرفه وهو تلبس المحوط بما أحاط به فاستعمال ‏{‏في‏}‏ استعارة تبعية‏.‏

والمريج‏:‏ المضطرب المختلط، أي لا قرار في أنفسهم في هذا التكذيب، اضطربت فيه أحوالهم كلها من أقوالهم في وصف القرآن فإنهم ابتدروا فنفوا عنه الصدق فلم يتبينوا بأي أنواع الكلام الباطل يلحقونه فقالوا‏:‏ ‏{‏سحر مبين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، وقالوا ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ وقالوا ‏{‏قول شاعر‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41‏]‏، وقالوا‏:‏ ‏{‏قول كاهن‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 42‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏(‏هذيان مجنون‏)‏‏.‏ وفي سلوكهم في طرق مقاومة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وما يصفونه به إذا سألهم الواردون من قبائل العرب‏.‏ ومن بهتهم في إعجاز القرآن ودلالة غيره من المعجزات وما دمغهم به من الحجج على إبطال الإشراك وإثبات الوحدانية لله‏.‏ وهذا تحميق لهم بأنهم طاشت عقولهم فلم يتقنوا التكذيب ولم يرسوا على وصف الكلام الذي كذبوا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏بل عجبوا أن جاءهم منذر‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 2‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مريج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 5‏]‏ لأن أهمّ ما ذكر من تكذيبهم أنهم كذبوا بالبعث، وخلق السماوات والنجوم والأرض دالّ على أن إعادة الإنسان بعد العدم في حيّز الإمكان فتلك العوالم وجدت عن عدم وهذا أدلّ عليه قوله تعالى في سورة يس ‏(‏81‏)‏ ‏{‏أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم‏}‏

والاستفهام يجوز أن يكون إنكارياً‏.‏ والنظرُ نظرَ الفكر على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏‏.‏ ومحل الإنكار هو الحال التي دل عليها ‏{‏كيفَ بنيناها‏}‏، أي ألم يتدبروا في شواهد الخليقة فتكون الآية في معنى أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏.‏

ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً، والنظر المشاهدة، ومحل التقرير هو فعل ‏{‏ينظروا‏}‏، أو يكون ‏{‏كيف‏}‏ مراد به الحال المشاهدة‏.‏

هذا وأن التقرير على نفي الشيء المراد الإقرار بإثباته طريقة قرآنية ذكرناها غير مرة، وبينا أن الغرض منه إفساح المجال للمقرَّر إن كان يروم إنكار ما قُرر عليه، ثقة من المقرِّر بكسر الراء بأن المقرَّر بالفتح لا يُقدم على الجحود بما قرر عليه لظهوره، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا أنه لا يكلمهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ألست بربكم كلاهما‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏172‏)‏‏.‏

وهذا الوجه أشدّ في النعي عليهم لاقتضائه أن دلالة المخلوقات المذكورة على إمكان البعث يكفي فيها مجرد النظر بالعين‏.‏

وفوقهم‏}‏ حال من السماء‏.‏ والتقييد بالحال تنديد عليهم لإهمالهم التأمل مع المكنة منه إذ السماء قريبة فوقهم لا يكلفهم النظر فيها إلا رفعَ رؤوسهم‏.‏

و ‏{‏كيف‏}‏ اسم جامد مبْنيّ معناه‏:‏ حالة، وأكثر ما يرد في الكلام للسؤال عن الحالة فيكون خبراً قبل ما لا يستغنِي عنه مثل‏:‏ كيف أنت‏؟‏ وحالاً قبل ما يستغنى عنه نحو‏:‏ كيف جاء‏؟‏ ومفعولاً مطلقاً نحو ‏{‏كيف فعل ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏، ومفعولاً به نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وهي هنا بدل من ‏{‏فوقَهم‏}‏ فتكون حالاً في المعنى‏.‏ والتقدير‏:‏ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم هيئة بنينا إياها، وتكون جملة ‏{‏بنيناها‏}‏ مبينة ل ‏{‏كيف‏}‏‏.‏

وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع‏.‏ والمراد ب ‏{‏السماء‏}‏ هنا ما تراه العين من كرة الهواء التي تبدو كالقبة وتسمى الجوّ‏.‏

والتزيين جعل الشيء زينا، أي حسناً أي تحسين منظرها للرائي بما يبدو فيها من الشمس نهاراً والقمر والنجوم ليلاً‏.‏ واقتصر على آية تزيين السماء دون تفصيل ما في الكواكب المزَّينة بها من الآيات لأن التزيين يشترك في إدراكه جميع الذين يشاهدونه وللجمع بين الاستدلال والامتنان بنعمة التمكين من مشاهدة المرائي الحسنة كما قال تعالى

‏{‏ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 6‏]‏ في شأن خَلق الأنعام في سورة النحل‏.‏

ثم يتفاوت الناس في إدراك ما في خلق الكواكب والشمس والقمر ونظامها من دلائل على مقدار تفاوت علومهم وعقولهم‏.‏ والآية صالحة لإفهام جميع الطبقات‏.‏

وجملة ‏{‏وما لها من فروج‏}‏ عطف على جملتي ‏{‏كيف بنيْنَاها وزيّناها‏}‏ فهي حال ثالثة في المعنى‏.‏

والفروج‏:‏ جمع فرج، وهو الخرق، أي يشاهدونها كأنها كُرة متصلة الأجزاء ليس بين أجزائها تفاوت يبدو كالخَرْق ولا تباعد يفصل بعضها عن بعض فيكون خرقاً في قبتها‏.‏

وهذا من عجيب الصنع إذ يكون جسم عظيم كجسم كرة الهواء الجوي مصنوعاً كالمفروغ في قالب‏.‏ وهذا مشاهد لجميع طبقات الناس على تفاوت مداركهم ثم هم يتفاوتون في إدراك ما في هذا الصنع من عجائب التئام كرة الجوّ المحيط بالأرض‏.‏

ولو كان في أديم ما يسمى بالسماء تخالف من أجزائه لظهرت فيه فروج وانخفاض وارتفاع‏.‏ ونظير هذه الآية قوله في سورة المُلك ‏{‏الذي خلق سبع سماوات طباقا إلى قوله هل ترى من فطور‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أفلم ينظروا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار‏.‏ والتقدير‏:‏ ومددنا الأرض‏.‏

ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاريّ تنزيلاً لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيراً لهم‏.‏ وانتصب ‏{‏الأرض‏}‏ ب ‏{‏مددناها‏}‏ على طريقة الاشتغال‏.‏

والمدّ‏:‏ البسط، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموعَ نُتُوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مُرهقاً‏.‏

والمراد‏:‏ بسط سَطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض‏.‏

والإبقاء‏:‏ تمثيل لتكوين أجسام بارزةٍ على الأرض متباعد بَعْضها عن بعض لأنّ حقيقة الإلقاء‏:‏ رمي شيء من اليد إلى الأرض، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله‏:‏ ‏{‏وإلى الجبال كيف نُصِبَت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 19‏]‏ و‏{‏فيها‏}‏ ظرف مستقر وصف ل ‏{‏رواسي‏}‏ قدم على موصوفه فصار حالاً، ويجوز أن يكون ظرفاً لغواً متعلّقاً ب ‏{‏ألقينا‏}‏‏.‏

ورواسي‏:‏ جمع راسسٍ على غير قياس مثل‏:‏ فوارس وعواذل‏.‏ والرسُوُّ‏:‏ الثبات والقرار‏.‏

وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعاً كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها‏.‏ وقد قال في سورة الأنبياء ‏(‏31‏)‏ ‏{‏وجعلنا في الأرض رواسيَ أن تميد بهم‏}‏ أي دَفْعَ أن تميد هي، أي الجبال بكم، أي ملصقة بكم في مَيْدها‏.‏ وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء‏.‏

والزوج‏:‏ النوع من الحيوان والثمار والنبات، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شَتَّى‏}‏ في سورة طه ‏(‏53‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه‏.‏

وقوله‏:‏ من كل زوج‏}‏ يظهر أن حرف ‏{‏مِن‏}‏ فيه مزيد للتوكيد‏.‏ وزيادة ‏{‏مِن‏}‏ في غير النفي نادرة، أي أقل من زيادتها في النفي، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفشُ وأبو علي الفارسي وابن جنيّ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينزّل من السماء من جباللٍ فيها من بردَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ إن المعنى‏:‏ ينزل من السماء جبالاً فيها بَرَد، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النخل من طلعها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏99‏)‏‏.‏

فالمقصود من التوكيد بحرف من‏}‏ تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحاله إخراج الناس من الأرض، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه‏.‏

وليست ‏{‏من‏}‏ هنا للتبعيض إذِ ليس المعنى عليه‏.‏

فكلمة ‏{‏كل‏}‏ مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏25‏)‏، وقوله فيها ‏{‏وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 70‏]‏، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى‏}‏ في سورة طه ‏(‏53‏)‏‏.‏

وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عمُوا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم‏.‏

والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبّهة، يقال‏:‏ بَهُج بضم الهاء، إذا حَسُن في أعين الناظرين، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنبتنا به حدائق ذاتَ بهجة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول، أي منبهَج به على الحذف والإيصال، أي يُسرّ به الناظر، يقال‏:‏ بهَجَه من باب منَع، إذا سرّه، ومنه الابتهاج المسرة‏.‏

وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى‏.‏ وإدماج الامتنان عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دِفْءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تُرِيحون وحين تَسْرحُون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

مفعول لأجله للأفعال السابقة من قوله‏:‏ ‏{‏بنيناها وزيناها‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ الخ، على أنه علة لها على نحو من طريقة التنازع، أي ليكون ما ذكر من الأفعال ومعمولاتها تبصرة وذكرى، أي جعلناه لغرضضِ أن نُبصِّر به ونُذكّر كل عبد منيب‏.‏

وحذف متعلق ‏{‏تبصرة وذكرى‏}‏ ليَعُم كلَّ ما يصلح أن يتبصر في شأنه بدلائل خلق الأرض وما عليها، وأهم ذلك فيهم هو التوحيد والبعث كما هو السياق تصريحاً وتلويحاً‏.‏

وإنما كانت التبصرة والذكرى علة للأفعال المذكورة لأن التبصرة والذكرى من جملة الحِكم التي أوجد الله تلك المخلوقات لأجلها‏.‏ وليس ذلك بمقتض انحصار حكمة خلقها في التبصرة والذكرى، لأن أفعال الله تعالى لها حِكَم كثيرة عَلِمنا‏.‏ بعضها وخفي علينا بعض‏.‏

والتبصرة‏:‏ مصدر بصّره‏.‏ وأصل مصدره التَبصير، فحذفوا الياء التحتية من أثناء الكلمة وعوضوا عنها التاء الفوقية في أول الكلمة كما قالوا‏:‏ جرّب تجربة وفَسّر تفسرة، وذلك يقلّ في المضاعف ويكثر في المهموز نحو جَزّأ تجزئة، ووطّأ توطئة‏.‏ ويتعين في المعتل نحو‏:‏ زَكّى تزكية، وغطاه تغطية‏.‏

والتّبصير‏:‏ جعل المرء مبصراً وهو هنا مجاز في إدراك النفس إدراكاً ظاهراً للأمر الذي كان خفياً عنها فكأنها لم تبصره ثم أبصرته‏.‏

والذكرى اسم مصدر ذَكَّر، إذا جعله يَذكر ما نسيه‏.‏ وأطلقت هنا على مراجعة النفس ما علمته ثم غفلت عنه‏.‏

و ‏{‏عبد‏}‏ بمعنى عبد الله، أي مخلوق، ولا يطلق إلاّ على الإنسان‏.‏ وجمعه‏:‏ عباد دون عبيد‏.‏

والمنيب‏:‏ الراجع، والمراد هنا الراجع إلى الحق بطاعة الله فإذا انحرف أو شغله شاغل ابتدر الرجوع إلى ما كان فيه من الاستقامة والامتثال فلا يفارقه حال الطاعة وإذا فارقه قليلاً آب إليه وأناب‏.‏ وإطلاق المنيب على التائب والإنابة على التوبة من تفاريع هذا المعنى، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخرّ راكعاً وأناب‏}‏ في سورة ص ‏(‏24‏)‏‏.‏

وخُص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الأفعال‏.‏ وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر‏.‏ ويحمل ‏(‏كل‏)‏ على حقيقة معناه من الإحاطة والشموال‏.‏ فالمعنى‏:‏ أن تلك الأفعال قصد منها التبصرة والذكرى لجميع العباد المتبعين للحق إذ لا يخلون من تبصرّ وتذكر بتلك الأفعال على تفاوت بينهم في ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

بعد التنظر والتذكير والتبصير في صنع السماوات وصنع الأرض وما فيهما من وقت نشأتهما نُقل الكلام إلى التذكير بإيجاد آثار من آثار تلك المصنوعات تتجدد على مرور الدهر حية ثم تموت ثم تحيا دَأْبا، وقد غير أسلوب الكلام لهذا الانتقال من أسلوب الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أفلم ينظروا إلى السماء‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ إلى أسلوب الإخبار بقوله‏:‏ ‏{‏ونزلنا من السماء ماء مباركاً‏}‏ إيذاناً بتبديل المراد ليكون منه تخلص إلى الدلالة على إمكان البعث في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك الخروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فجملة ‏{‏ونزلنا‏}‏ عطف على جملة ‏{‏والأرض مددناها‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وقد ذكرت آثار من آثار السماء وآثار الأرض على طريقة النشر المرتب على وفق اللف‏.‏

والمبارك‏:‏ اسم مفعول للذي جعلت فيه البركة، أي جُعل فيه خير كثير‏.‏ وأفعال هذه المادة كثيرة التصرف ومتنوعة التعليق‏.‏ والبركة‏:‏ الخير النافع لما يتسبب عليه من إنبات الحبوب والأعناب والنخيل‏.‏ وتقدم معنى المبارك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏96‏)‏‏.‏ وفي هذا استدلال بتفصيل الإنبات الذي سبق إجماله في قوله‏:‏ ‏{‏وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ لما فيه من سوق العقول إلى التأمل في دقيق الصنع لذلك الإنبات وأن حصوله بهذا السبب وعلى ذلك التطور أعظم دلالة على حكمة الله وسعة علمه مما لو كان إنبات الأزواج بالطفرة، إذ تكون حينئذٍ أسباب تكوينها خفيّة فإذا كان خلق السماوات وما فيها، ومد الأرض وإلقاء الجبال فيها دلائل على عظيم القدرة الربانية لخفاء كيفيات تكوينها فإن ظهور كيفيات التكوين في إنزال المال وحصول الإنبات والإثمار دلالة على عظيم علم الله تعالى‏.‏

والجنات‏:‏ جمع جَنة، وهي ما شُجر بالكَرْم وأشجار الفواكه والنخيللِ‏.‏

والحب‏:‏ هو ما ينبت في الزرع الذي يُخرج سنابل تحوي حبوباً مثل البُرّ والشعير والذُّرة والسُّلْت والقطاني مما تحصد أصوله ليُدَقّ فيُخرج ما فيه من الحب‏.‏

و ‏{‏حب الحصيد‏}‏ مفعول ‏{‏أنبتنا‏}‏ لأن الحب مما نبت تبعاً لنبات سنبله المدلول على إنباته بقوله‏:‏ ‏{‏الحصيد‏}‏ إذ لا يُحصد إلا بعد أن ينبت‏.‏

والحصيد‏:‏ الزرع المحصود، أي المقطوع من جذوره لأكل حبه، فإضافة ‏{‏حب‏}‏ إلى ‏{‏الحصيد‏}‏ على أصلها، وليست من إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ وفائدة ذكر هذا الوصف‏:‏ الإشارة إلى اختلاف أحوال استحصال ما ينفع الناس من أنواع النبات فإن الجنات تُستثمر وأصولُها باقية والحبوب تستثمر بعد حصد أصولها، على أن في ذلك الحصيد منافع للأنعام تأكله بعد أخذ حبه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏متاعاً لكم ولأنعامكم‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 33‏]‏‏.‏ 6

وخص النَخلُ بالذكر مع تناول جنات له لأنه أهم الأشجار عندهم وثمره أكثر أقواتهم، ولإتباعه بالأوصاف له ولِطلعه مما يثير تذكر بديع قوامه، وأنيق جماله‏.‏

والباسقات‏:‏ الطويلات في ارتفاع، أي عاليات فلا يقال‏:‏ باسق للطويل الممتد على الأرض‏.‏

وعن ابن شداد‏:‏ الباسقات الطويلات مع الاستقامة‏.‏ ولم أره لأحد من أيمة اللغة‏.‏ ولعلّ مراده من الاستقامة الامتداد في الارتفاع‏.‏ وهو بالسين المهملة في لغة جميع العرب عدا بني العنبر من تميم يُبدلون السين صاداً في هذه الكلمة‏.‏ قال ابن جنيّ‏:‏ الأصل السين وإنما الصاد بدل منها لاستعلاء القاف‏.‏ وروى الثعلبي عن قطبة بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قرأها بالصاد‏.‏ ومثله في ابن عطية وهو حديث غير معروف‏.‏ والذي في «صحيح مسلم» وغيره عن قطبة بن مالك مروية بالسين‏.‏ ومن العجيب أن الزمخشري قال‏:‏ وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم باصقات‏.‏ وانتصب ‏{‏باسقات‏}‏ على الحال‏.‏ والمقصود من ذلك الإيماء إلى بديع خلقته وجمال طلعته استدلالاً وامتناناً‏.‏

والطلع‏:‏ أول ما يظهر من ثمر التمر، وهو في الكُفُرَى، أي غلاف العنقود‏.‏

والنضيد‏:‏ المنضود، أي المصفّف بعضه فوق بعض ما دام في الكُفُرَى فإذا انشق عنه الكُفرى فليس بنضيد‏.‏ فهو معناه بمعنى مفعول قال تعالى‏:‏ ‏{‏وطلح منضود‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وزيادة هذه الحال للازدياد من الصفات الناشئة عن بديع الصنعة ومن المنة بمحاسن منظر ما أوتوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً‏}‏

مفعول لأجله لقوله‏:‏ ‏{‏فأنبتنا به جنات‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9‏]‏ إلى آخره، فهو مصدر، أي لنرزق العباد، أي نقوتهم‏.‏ والقول في التعليل به كالقول في التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏تبصرة وذكرى‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والعباد‏:‏ الناس وهو جمع عبد بمعنى عبد الله، فأمّا العبد المملوك فجمعه العبيد‏.‏ وهذا استدلال وامتنان‏.‏

‏{‏عِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً‏}‏‏.‏

عطف على ‏{‏رزقا للعباد‏}‏ عطف الفعل على الاسم المشتق من الفعل وهو رزقه المشتق لأنه في معنى‏:‏ رزقنا العباد وأحيينا به بلدة ميتا، أي لرعي الأنعام والوحش فهو استدلال وفيه امتنان‏.‏ والبلدة‏:‏ القطعة من الأرض‏.‏

والمَيْت بالتخفيف‏:‏ مرادف المَيِّت بالتشديد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وتذكير الميت وهو وصف للبلدة، وهي مؤنث على تأويله بالبلد لأنه مرادفه، وبالمكان لأنه جنسه، شبه الجدْب بالموت في انعدام ظهور الآثار، ولذلك سمي ضده وهو إنبات الأرض حياة‏.‏ ويقال لخِدمة الأرض اليابسة وسقِيها‏:‏ إحياءُ موات‏.‏

‏{‏مَّيْتاً كذلك‏}‏‏.‏

بعد ظهور الدلائل بصنع الله على إمكان البعث لأن خلق تلك المخلوقات من عدم يدل على أن إعادة بعض الموجودات الضعيفة أمكنُ وأهَونُ، جيء بما يفيد تقريب البعث بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك الخروج‏}‏‏.‏

فهذه الجملة فذلكة للاستدلال على إمكان البعث الذي تضمنته الجمل السابقة فوجب انفصال هذه الجملة فتكون استئنافاً أو اعتراضاً في آخر الكلام على رأي من يجيزه وهو الأصح‏.‏

والإشارة ‏{‏بذلك‏}‏ إلى ما ذكر آنفاً من إحياء الأرض بعد موتها، أي كما أحيينا الأرض بعد موتها كذلك نحيي الناس بعد موتهم وبلاِهم، مع إفادتها تعظيم شأن المشار إليه، أي مثل البعث العظيم الإبداع‏.‏

والتعريف في ‏{‏الخروج‏}‏ للعهد، أي خروج الناس من الأرض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يخرجون من الأجداث سِراعا‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ف ‏{‏الخروج‏}‏ صار كالعلَم بالغلبة على البعث، وسيأتي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوم الخروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وتقديم المجرور على المبتدإ للاهتمام بالخبر لما في الخبر من دفع الاستحالة وإظهار التقريب، وفيه تشويق لتلقي المسند إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بالحق لما جاءهم‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 5‏]‏ فعُقّب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم‏.‏ وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب، فقوم نُوح أول قوم كذبوا رسولهم وفرعون كذب موسى وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب، وأما أصحاب الرسّ وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع فهم من العرب‏.‏

وذكروا هنا عقب قوم نوح للجامع الخيالي بين القومين وهو جامع التضادّ لأن عذابهم كان ضد عذاب قوم نوح إذ كان عذابهم بالخسف وعذاب قوم نوح بالغرق، ثم ذكر ثمود لشبه عذابهم بعذاب أصحاب الرسّ إذ كان عذابهم برجفة الأرض وصواعق السماء، ولأن أصحاب الرسّ من بقايا ثمود، ثم ذكرت عاد لأن عذابها كان بحادث في الجوّ وهو الريح، ثم ذكر فرعون وقومه لأنهم كذبوا أشهر الرسل قبل الإسلام، وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب وهم من خلطاء بني إسرائيل‏.‏

وعُبّر عن قوم لوط ب ‏{‏إخوان لوط‏}‏ ولم يكونوا من قبيله، فالمراد ب ‏{‏إخوان‏}‏ أنهم ملازمون وهم أهل سدوم وعمورة وقُراهما وكان لوط ساكناً في سَدوم ولم يكن من أهل نسبهم لأن أهل سدوم كنعانيون ولوطاً عبراني‏.‏ وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال لهم أخوهم لوط‏}‏ في سورة الشعراء ‏(‏161‏)‏‏.‏ وذُكر قوم تبع وهم أهل اليمن ولم يكن العرب يعدونهم عربا‏.‏

وهذه الأمم أصابها عذاب شديد في الدنيا عقاباً على تكذيبهم الرسل‏.‏ والمقصود تسلية رسول الله، والتعريضُ بالتهديد لقومه المكذّبين أن يحل بهم ما حلّ بأولئك‏.‏

والرس‏:‏ يطلق اسماً للبئر غير المطوية ويطلق مصدراً للدفن والدسّ‏.‏ واختلف المفسرون في المراد به هنا‏.‏ وأصحاب الرس‏}‏ قوم عرفوا بالإضافة إلى الرس، فيحتمل أن إضافتهم إلى الرسّ من إضافة الشيء إلى موطنه مثل ‏{‏أصحاب الأيْكة‏}‏، و‏{‏أصحاب الحجر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 80‏]‏ و‏{‏أصحاب القرية‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون إضافةً إلى حدث حلّ بهم مثل ‏{‏أصحاب الأخدود‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وفي تعيين ‏{‏أصحاب الرس‏}‏ أقوال ثمانية أو تسعة وبعضها متداخل‏.‏

وتقدم الكلام عليهم في سورة الفرقان‏.‏ والأظهر أن إضافة ‏{‏أصحاب‏}‏ إلى ‏{‏الرسّ‏}‏ من إضافة اسم إلى حدث حدث فيه فقد قيل‏:‏ إن أصحاب الرسّ عوقبوا بخسف في الأرض فوقعوا في مثل البئر‏.‏ وقيل‏:‏ هو بئر ألقى أصحابه فيه حنظلة بن صفوان رسول الله إليهم حيّا فهو إذن علَم بالغلبة وقيل هو فلج من أرض اليمامة‏.‏ وتقدم الكلام على أصحاب الرس في سورة الفرقان ‏(‏38‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعادا وثمودا وأصحاب الرس‏}‏

وأصحاب الأيكة هم من قوم شعيب وتقدم في سورة الشعراء‏.‏ وقوم تبع هم حِمير من عرب اليمن وتقدم ذكرهم في سورة الدخان‏.‏

وجملة ‏{‏كل كذب الرسل‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح‏}‏ إلى آخرها، فلذلك فصلت ولم تعطف، وليبني عليه قوله‏:‏ ‏{‏فحَقّ وعيد‏}‏ فيكون تهديد بأن يحق عليهم الوعيد كما حق على أولئك مرتباً بالفاء على تكذيبهم الرسل فيكون في ذلك تشريف للنبيء صلى الله عليه وسلم وللرسل السابقين‏.‏ وتنوين ‏{‏كل‏}‏ تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كلّ أولئك‏.‏ و‏{‏حقّ‏}‏ صدق وتحقّق‏.‏

والوعيد‏:‏ الإنذار بالعقوبة واقتضى الإخبار عنه ب ‏{‏حق‏}‏ أن الله توعدهم به فلم يعبأوا وكذبوا وقوعه فحق وصدق‏.‏ وحذفت ياء المتكلم التي أضيف إليها ‏{‏وعيد‏}‏ للرعي على الفاصلة وهو كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

تشير فاء التفريع إلى أن هذا الكلام مفرع على ما قبله وهو جملة ‏{‏أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تبصرة وذكرى‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 8‏]‏ المعرض بأنهم لم يتبصروا به ولم يتذكروا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأنبتنا به جنات‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ويجوز أن يجعل تفريعاً على قوله‏:‏ ‏{‏كذلك الخروج‏}‏‏.‏

والاستفهام المفرَّع بالفاء استفهام إنكار وتغليط لأنهم لا يسعهم إلاّ الاعتراف بأن الله لم يعي بالخلق الأول إذ لا ينكر عاقل كمال قدرة الخالق وعدم عجزه‏.‏

و ‏{‏عيينا‏}‏ معناه عجزنا، وفعِل ‏(‏عَيَّ‏)‏ إذا لم يتصل به ضمير يقال مُدغماً وهو الأكثر ويقال‏:‏ عيِيَ بالفك فإذا اتصل به ضمير تعين الفك‏.‏ ومعناه‏:‏ عجز عن إتقان فعل ولم يهتد لحيلته‏.‏ ويعدّى بالباء يقال‏:‏ عيي بالأمر والباء فيه للمجاوزة‏.‏ وأما أعيا بالهمزة في أوله قاصراً فهو للتعب بمشي أو حمل ثقل وهو فعل قاصر لا يُعدّى بالباء‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما عجزنا عن الخلق الأول للإنسان فكيف تعجز عن إعادة خلقه‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ للإضراب الإبطالي عن المستفهم عنه، أي بل ما عيينا بالخلق الأول، أي وهم يعلمون ذلك ويعلمون أن الخلق الأول للأشياء أعظم من إعادة خلق الأموات ولكنهم تمكن منهم اللبس الشديد فأغشى إدراكهم عن دلائل الإمكان فأحالوه، فالإضراب على أصله من الإبطال‏.‏

واللبس‏:‏ الخلط للأشياء المختلفة الحقائق بحيث يعسر أو يتعذر معه تمييز مختلفاتها بعضها عن بعض‏.‏ والمراد منه اشتباه المألوف المعتاد الذي لا يعرفون غير بالواجب العقلي الذي لا يجوز انتفاؤه، فإنهم اشتبه عليهم إحياء الموتى وهو ممكن عقلاً بالأمر المستحيل في العقل فجزموا بنفي إمكانه فنفوه، وتركوا القياس بأن من قدر على إنشاء ما لم يكن موجوداً هو على إعادة ما كان موجوداً أقدر‏.‏

وجيء بالجملة الاسمية من قوله‏:‏ ‏{‏هم في لبس من خلق جديد‏}‏ للدلالة على ثبات هذا الحكم لهم وأنه متمكن من نفوسهم لا يفارقهم البتة، وليتأتّى اجتلاب حرف الظرفية في الخبر فيدل على انغماسهم في هذا اللبس وإحاطته بهم إحاطة الظرف بالمظروف‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من خلق جديد‏}‏ ابتدائيه وهي صفة ل ‏{‏لبس‏}‏، أي لبس واصل إليهم ومنجرّ عن خلق جديد، أي من لَبْس من التصديق به‏.‏

وتنكير ‏{‏لَبْس‏}‏ للنوعية وتنكير ‏{‏خلق جديد‏}‏ كذلك، أي ما هو إلا خلق من جملة ما يقع من خلق الله الأشياء مما وجه إحالته ولتنكيره أجريت عليه الصفة ب ‏{‏جديد‏}‏‏.‏

والجديد‏:‏ الشيء الذي في أول أزمان وجوده‏.‏

وفي هذا الوصف تورّك عليهم وتحميق لهم من إحالتهم البعث، أي اجْعَلوه خلقاً جديدا كالخلق الأول، وأيّ فارق بينهما‏.‏

وفي تسمية إعادة الناس للبعث باسم الخلق إيماء إلى أنها إعادة بعد عدم الأجزاء لا جمع لمتفرقها، وقد مضى القول فيه في أول السورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه ‏{‏ونعلم ما توسوس به نفس‏}‏ الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله‏:‏ ‏{‏قد علمنا ما تنقص الأرض منهم‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 4‏]‏ ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قوله‏:‏ ‏{‏إذ يتلقى المتلقيان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17‏]‏ الخ‏.‏

ووصف البعث وصف الجزاء من قوله‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولدينا مزيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 20 35‏]‏‏.‏

وتأكيد هذا الخبر باللام و‏(‏قد‏)‏ مراعًى فيه المتعاطفات وهي ‏{‏نعلم ما توسوس به نفسه‏}‏ لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم‏.‏

و ‏{‏الإنسان‏}‏ يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولاً المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده ‏{‏ذلك ما كنت منه تحيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لقد كنت في غفلة من هذا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك يوم الوعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 20‏]‏‏.‏

والبَاء في قوله ‏{‏به‏}‏ زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل‏:‏ ما تتكلمه نفسه على طريقة ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم‏.‏

والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله‏.‏

وجملة ‏{‏ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏ونعلم‏}‏‏.‏

والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان، ومعنى ‏{‏توسوس‏}‏ تتكلم كلاماً خفياً همساً‏.‏ ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازاً على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض‏.‏

والحبل‏:‏ هنا واحد حِبال الجسم‏.‏ وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين، واحدها‏:‏ شَرْيان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجْويف الأيسر من تجويفي القلب‏.‏ وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء‏.‏ وللشرايين أسماء باعتبار مصابِّها من الأعضاء الرئيسية‏.‏

والوريد‏:‏ واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب‏.‏

واسمه في علم الطلب أورطِي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر‏.‏ وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتِي ويصعدان يميناً ويساراً مع الودَجين، وكل هذه الأقسام تسمى الوريد‏.‏ وفي الجسد وَريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوَتين يَرِدان من الرأس إليه‏.‏

وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد، وفي القلب يسمى الوتين، وفي الظهر يسمى الأبهر، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنَّسَا، وفي الخنصر يدعى الأسلم‏.‏

وإضافة ‏{‏حبل‏}‏ إلى ‏{‏الوريد‏}‏ بيانية، أي الحبل الذي هو الوريد، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وَقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم‏:‏ شجر الأراك‏.‏

والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الإطلاع، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز‏.‏

ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه، وكذلك قرب الله من الإنسان بِعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد‏.‏ وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلَّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء‏.‏ مثل قولهم‏:‏ هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار، وقول زهير‏:‏

فهن ووادي الرس كاليد للفم *** وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم‏:‏

كُل امرئ مصبَّح في إهِلهِ *** والموتُ أدنى من شراك نعلهِ

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يتعلق ‏{‏إذْ‏}‏ بقوله ‏{‏أقرب‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ لأن اسم التفضيل يعمل في الظرف وإن كان لا يعمل في الفاعل ولا في المفعول به واللغة تتوسع في الظروف والمجرورات ما لا تتوسع في غيرها، وهذه قاعدة مشهورة ثابتة والكلام تخلص للموعظة والتهديد بالجزاء يوم البعث والجزاء من إحصاء الأعمال خيرها وشرها المعلومة من آيات كثيرة في القرآن‏.‏ وهذا التخلص بكلمة ‏{‏إذ‏}‏ الدالة على الزمان من ألطف التخلص‏.‏

وتعريف ‏{‏المُتَلَقِّيان‏}‏ تعريف العهد إذا كانت الآية نزلت بعد آيات ذُكر فيها الحفظة، أو تعريفُ الجنس، والتثنية فيها للإشارة إلى أن هذا الجنس مقسم اثنين اثنين‏.‏

والتلقّي‏:‏ أخذ الشيء من يد معطيه‏.‏ استعير لتسجيل الأقوال والأعمال حين صدورها من الناس‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏يتلقى‏}‏ لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إذ تحصى أقوالهم وأعمالهم‏.‏ فيؤخذ من الآية أن لكل إنسان ملَكيْن يحصيان أعماله وأن أحدهما يكون من جهة يمينه والآخر من جهة شماله‏.‏ وورد في السنة بأسانيد مقبولة‏:‏ أن الذي يَكون عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وورد أنهما يلازمان الإنسان من وقت تكليفه إلى أن يموت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عن اليمين وعن الشمال قعيد‏}‏ يجوز أن يكون ‏{‏قعيد‏}‏ بدلاً من ‏{‏المتلقِّيان‏}‏ بدل بعض، و‏{‏عن اليمين‏}‏ متعلق ب ‏{‏قعيد‏}‏، وقدم على متعلَّقه للاهتمام بما دل عليه من الإحاطة بجانبيه وللرعاية على الفاصلة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏عن اليمين‏}‏ خبراً مقدماً، و‏{‏قعيد‏}‏ مبتدأ وتكون الجملة بياناً لجملة ‏{‏يتلقى المتلقيان‏}‏‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏وعن الشمال‏}‏ على جملة ‏{‏يتلقى‏}‏ وليس عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏عن اليمين‏}‏ لأنه ليس المعنى على أن القعيد قعيد في الجهتين، بل كل من الجهتين قعيد مستقل بها‏.‏ والتقدير‏:‏ عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد آخر‏.‏ والتعريف في ‏{‏اليمين‏}‏ و‏{‏الشمال‏}‏ تعريف العهد أو اللام عوض عن المضاف إليه، أي عن يمين الإنسان وعن شماله‏.‏

والقعيد‏:‏ المُقَاعد مثل الجَليس للمجالس، والأكيل للمؤاكل، والشَّرِيب للمشارب، والخليطِ للمخالط‏.‏ والغالب في فعيل أن يكون إما بمعنى فاعل، وإما بمعنى مفعول، فلمّا كان في المفاعلة معنى الفاعل والمفعول معاً، جاز مجيء فعيل منه بأحد الاعتبارين تعويلاً على القرينة، ولذلك قالوا لامرأة الرجل قعيدته‏.‏ والقعيد مستعار للملازم الذي لا ينفك عنه كمَا أطلقوا القعيد على الحافظ لأنه يلازم الشيء الموكل بحفظه‏.‏

وجملة ‏{‏ما يلفظ من قول‏}‏ الخ مبينة لجملة ‏{‏يتلقى المتلقيان‏}‏ فلذلك فصلت‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ نافية وضمير ‏{‏يلفظ‏}‏ عائد للإنسان‏.‏

واللفظ‏:‏ النطق بكلمةٍ دالة على معنى ولو جزء معنى، بخلاف القول فهو الكلام المفيد معنى‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ زائدة في مفعول الفعل المنفي للتنصيص على الاستغراق‏.‏ والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ لديه رقيب عتيد‏}‏ استثناء من أحوال عامة، أي ما يقول قولاً في حالة إلا في حالة وجود رقيب عتيد لديه‏.‏

والأظهر أن هذا العموم مراد به الخصوص بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ لأن المراقبة هنا تتعلق بما في الأقوال من خير أو شرّ ليكون عليه الجزاء فلا يَكتب الحفظة إلاّ ما يتعلق به صلاح الإنسان أو فساده إذ لا حكمة في كتابة ذلك وإنما يكتب ما يترتب عليه الجزاء وكذلك قال ابن عباس وعكرمة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يكتبان كل ما صدر من العبد، قال مجاهد وأبو الجوزاء‏:‏ حتى أنينه في مرضه‏.‏ وروي مثله عن مالك بن أنس‏.‏ وإنما خص القولُ بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير المشركون وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم‏.‏

وأما الأعمال التي هي من أثر الشرك كالتطواف بالصنم، أو من أثر أذى النبي عليه الصلاة والسلام كإلقاء سلا الجذور عليه في صلاته، ونحو ذلك، فهم مؤاخذون به في ضمن أقوالهم على أن تلك الأفعال لا تخلو من مصاحبة أقوال مؤاخذ عليها بمقدار ما صاحبها‏.‏

ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وهل يَكُبّ الناسَ في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم ‏"‏، على أنه من المعلوم بدلالة الاقتضاء أن المؤاخذة على الأعمال أولى من المؤاخذة على الأقوال وتلك الدلالة كافية في تذكير المؤمنين‏.‏

وجملة ‏{‏إلاّ لديه رقيب عتيد‏}‏ في موضع الحال، وضمير ‏{‏لديه‏}‏ عائد إلى ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏، والمعنى‏:‏ لدى لفظه بقوله‏.‏

و ‏{‏عتيد‏}‏ فعيل من عتَد بمعنى هَيّأ، والتاء مبدلة من الدال الأول إذ أصله عديد، أي مُعَدّ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدَتْ لهن مُتَّكأ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وعندي أن ‏{‏عتيد‏}‏ هنا صفة مشبهة من قولهم ‏(‏عَتُد‏)‏ بضم التاء إذا جَسم وضَخم كناية عن كونه شديدا وبهذا يحصل اختلاف بينه وبين قوله الآتي ‏{‏هذا ما لديّ عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 23‏]‏ ويحصل محسّن الجناس التام بين الكلمتين‏.‏ وقد تواطأ المفسرون على تفسير التلقّي في قوله‏:‏ ‏{‏المتلّقيان‏}‏ بأنه تلّقي الأعمال لأجل كتبها في الصحائف لإحضارها للحساب وكان تفسيراً حائماً حول جعل المفعول المحذوف لفعل ‏{‏يتلقّى‏}‏ ما دل عليه قوله بعده ‏{‏ما يلفِظ من قول إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ بدلالته الظاهرة أو بدلالة الاقتضاء‏.‏ فالتقدير عندهم‏:‏ إذ يتلقى المتلقيان عَمل الإنسان وقوله، فتكون هذه الجملة على تقديرهم منفصلة عن جملة ‏{‏وجاءت سكرة الموت بالحق‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏ كما سنبينه‏.‏

ولفخر الدين معنى دقيق فبعد أن أجمل تفسير الآية بما يساير تفسير الجمهور قال‏:‏ «ويحتمل أن يقال التلقّي الاستقبال، يقال‏:‏ فلان تلقى الركب، وعلى هذا الوجه يكون معناه‏:‏ وقت ما يتلقاه المتلقّيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالمتلقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من مَلَك الموت أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الويل والثبور إلى يوم النشور، أي وقت تلقيهما وسؤالهما أنه من أي القبيلَيْن يكون عند الرجل قعيد عن اليمين وقعيد عن الشمال ملكان ينزلان، وعنده ملكان آخران كاتبان لأعماله، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى‏:‏

‏{‏سائق وشهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏‏.‏ فالشهيد هو القعيد والسائق هو المتلقي يتلقى روحه من ملَك الموت فيسوقه إلى منزله وقت الإعادة، وهذا أعرف الوجهين وأقربهما إلى الفهم» اه‏.‏

وكأنه ينحو به منحى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83 85‏]‏‏.‏ ولا نوقف في سداد هذا التفسير إلا على ثبوت وجود ملكين يتسلمان روح الميت من يد ملَك الموت عند قبضها ويجعلانها في المقر المناسب لحالها‏.‏ والمظنون بفخر الدين أنه اطلع على ذلك، وقد يؤيده ما ذكره القرطبي في «التذكرة» عن «مسند الطيالسي» عن البراء‏.‏ وعن كتاب «النسائي» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا حُضر الميت المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء يقولون‏:‏ اخرجي راضية مرضيا عنك إلى رَوْح وريحان وربّ راضضٍ غير غضبان، فإذا قبضه الملَك لم يدعوها في يده طرفة فتخرج كأطيب ريح المسك فتعرج بها الملائكة حتى يأتوا به باب السماء ‏"‏ وساق الحديث إلا أن في الحديث ملائكة جمعاً وفي الآية ‏{‏المتلقيان‏}‏ تثنية‏.‏

وعلى هذا الوجه يكون مفعول ‏{‏يتلقى‏}‏ ما دل عليه قوله بعده ‏{‏وجاءت سكرة الموت‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ إذ يتلقى المتلقّيان روح الإنسان‏.‏ ويكون التعريف في قوله‏:‏ ‏{‏عن اليمين وعن الشمال‏}‏ عوضاً عن المضاف إليه أي عن يمينها وعن شمالها قعيد، وهو على التوزيع، أي عن يمين أحدهما وعن شمال الآخر‏.‏ ويكون ‏{‏قعيد‏}‏ مستعملاً في معنى‏:‏ قعيدان فإن فعيلا بمعنى فاعل قد يعامل معاملة فعيل بمعنى مفعول، كقول الأزرق بن طرفة‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطّويّ رماني

والاقتصار على ‏{‏ما يلفظ من قول‏}‏ حينئذٍ ظاهر لأن الإنسان في تلك الحالة لا تصدر منه أفعال لعجزه فلا يصدر منه في الغالب إلا أقوال من تضجّر أو أنين أو شهادة بالتوحيد، أو ضدها، ومن ذلك الوصايا والإقرارات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ لاشتراكهما في التنبيه على الجزاء على الأعمال‏.‏ فهذا تنقل في مراحل الأمور العارضة للإنسان التي تسلمه من حال إلى آخر حتى يقع في الجزاء على أعماله التي قد أحصاها الحفيظان‏.‏

وإنما خولف التعبير في المعطوف بصيغة الماضي دون صيغة المضارع التي صيغ بها المعطوف عليه لأنه لقربه صار بمنزلة ما حصل قصدا لإدخال الروع في نفوس المشركين كما استفيد من قوله‏:‏ ‏{‏ذلك ما كنت منه تحيد‏}‏ نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ويأتي على ما اختاره الفخر في تفسير ‏{‏إذ يتلقى المتلقّيان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17‏]‏ الآية أن تكون جملة ‏{‏وجاءت سكرة الموت‏}‏ الخ في موضع الحال‏.‏ والتقدير‏:‏ وقد جاءت سكرة الموت بالحق حينئذٍ‏.‏

والمجيء مجاز في الحصول والاعتراء وفي هذه الاستعارة تهويل لحالة احتضار الإنسان وشعوره بأنه مفارق الحياة التي ألِفها وتعلق بها قلبه‏.‏

والسَّكرة‏:‏ اسم لما يعتري الإنسان من ألم أو اختلال في المزاج يحجب من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة‏.‏ وهي مشتق من السَّكر بفتح فسكون وهو الغلق لأنه يغلق العقل ومنه جاء وصف السكران‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ للملابسة، وهي إما حال من ‏{‏سكرة الموت‏}‏ أي متصفة بأنها حق، والحق‏:‏ الذي حقّ وثبَت فلا يتخلّف، أي السكرة التي لا طمع في امتداد الحياة بعدها، وإما حال من ‏{‏الموت‏}‏، أي ملتبساً بأنه الحق، أي المفروض المكتوب على الناس فهم محقوقون به، أو الذي هو الجِدّ ضد العبث كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض بالحق‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 3‏]‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقول ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الموت بتنزيل قرب حصوله منزلة الحاصل المشاهد‏.‏

و ‏{‏تحيد‏}‏ تفرّ وتهرب، وهو مستعار للكراهية أو لتجنب أسباب الموت‏.‏ والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشدّ كراهية للموت لأن حياتهم مادية مَحضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومِن الذين أشركوا يَودّ أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 96‏]‏ إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه‏.‏ وفي الحديث «من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه»، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب، وبالكافر يكره لقاء الله‏.‏ وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله» أي والكافر بعكسه، وقد قال الله تعالى خطاباً لليهود ‏{‏قل إن الموت الذي تَفِرُّون منه فإنه ملاقيكم‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وتقديم ‏{‏منه‏}‏ على ‏{‏تحيد‏}‏ للاهتمام بما منه الحياد، وللرعاية على الفاصلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وجاءت سكرة الموت بالحق‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏ على تفسير الجمهور‏.‏ فأما على تفسير الفخر فالجملة مستأنفة وصيغة المضيّ في قوله‏:‏ ‏{‏ونُفِخ‏}‏ مستعملة في معنى المضارع، أي ينفخ في الصور فصيغ له المضي لتحقق وقوعه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏، والمشار إليه بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك يوم الوعيد‏}‏ إذ أن ذلك الزمان الذي نفخ في الصور عنده هو يوم الوعيد‏.‏

والنفخ في الصور تقدم القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله الملك يوم ينفخ في الصور‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏73‏)‏‏.‏

وجملة ذلك يوم الوعيد‏}‏ معترضة‏.‏ والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك يوم الوعيد‏}‏ راجعة إلى النفع المأخوذ من فعل ‏{‏ونُفخ في الصور‏}‏‏.‏ والإخبار عن النفخ بأنه ‏{‏يوم الوعيد‏}‏ بتقدير مضاف، أي ذلك حلول يوم الوعيد‏.‏ وإضافة ‏{‏يوم‏}‏ إلى ‏{‏الوعيد‏}‏ من إضافة الشيء إلى ما يقع فيه، أي يوم حصول الوعيد الذي كانوا تُوعِدوا به، والاقتصار على ذكر الوعيد لما علمت من أن المقصود الأول من هذه الآية هم المشركون‏.‏ وفي الكلام اكتفاء، تقديره‏:‏ ويوم الوعْد‏.‏

وعُطِفت جملة ‏{‏جاءت كل نفس‏}‏ على جملة ‏{‏نُفخ في الصور‏}‏‏.‏ والمراد ب ‏{‏كل نفس‏}‏ كل نفس من المتحدث عنهم وهم المشركون، ويدل عليه أمور‏:‏

أحدهما‏:‏ السياق‏.‏

والثاني‏:‏ قوله ‏{‏معها سائق‏}‏ لأن السائق يناسب إزجاء أهل الجرائم، وأما المهديون إلى الكرامة فإنما يهديهم قائد يسير أمامهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كأنما يساقون إلى الموت‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والثالث‏:‏ قوله بعده ‏{‏لقد كنت في غفلة من هذا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والرابع‏:‏ قوله بعده ‏{‏وقال قرينه هذا ما لدي عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏

وجملة ‏{‏معها سائق وشهيد‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏جاءت كل نفس‏}‏‏.‏ و‏{‏سائق‏}‏ مرفوع بالظرف الذي هو ‏{‏معها‏}‏ على رأي من أجازه، أو مبتدأ خبره ‏{‏معها‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون جملة ‏{‏معها سائق وشهيد‏}‏ حَالا من ‏{‏كلُّ نفس‏}‏‏.‏ وعطف ‏{‏وشهيد‏}‏ على ‏{‏سائق‏}‏ يجوز أن يكون من عطف ذات على ذات فيكون المراد ملكان أحدهما يسوق النفس إلى المحشر والآخر يشهد عليها بما حوته صحائف أعمالها‏.‏ ويجوز أن يكون من عطف الصفات مثل‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** فهو ملك واحد‏.‏

والسائق الذي يجعل غيره أمَامه يزجيه في السير ليكون بمرأى منه كيلا ينفلت وذلك من شأن المشي به إلى ما يسوء قال تعالى‏:‏ ‏{‏كأنما يساقون إلى الموت‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏، وأما قوله‏:‏ ‏{‏وسيق الذين اتّقوا ربّهم إلى الجنّة زمرا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ فمشاكلة‏.‏ وضِد السوق‏:‏ القَودْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

مقول قول محذوف دل عليه تعينه من الخطاب، أي يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء‏.‏

وجملة القول ومقوله في موضع الحال من ‏{‏كل نفس‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏ أو موقع الصفة، وعلامات الخطاب في كلمات ‏{‏كُنتَ‏}‏ و‏{‏عنكَ‏}‏ و‏{‏غطاءكَ‏}‏ و‏{‏بصركَ‏}‏ مفتوحة لتأويل النفس بالشخص أو بالإنسان ثم غُلب فيه التذكير على التأنيث‏.‏ وهذا الكلام صادر من جانب الله تعالى وهو شروع في ذكر الحساب‏.‏

والغفلة‏:‏ الذهول عما شأنه أن يُعلم وأطلقت هنا على الإنكار والجحد على سبيل التهكم، ورشَّح ذلك قولُه ‏{‏فكشفنا عنك غطاءك‏}‏ بمعنى‏:‏ بيّنا لك الدليل بالحس فهو أيضاً تهكّم‏.‏ وأوثر قوله‏:‏ ‏{‏في غفلة‏}‏ على أن يقال غافلاً للدلالة على تمكن الغفلة منه ولذلك استتبع تمثيلَها بالغطاء‏.‏

وكشف الغطاء تمثيل لحصول اليقين بالشيء بعد إنكار وقوعه، أي كشفنا عنك الغطاء الذي كان يحجب عنك وقوع هذا اليوم بما فيه، وأسند الكشف إلى الله تعالى لأنه الذي أظهر لها أسباب حصول اليقين بشواهد عَيْن اليقين‏.‏ وأضيف ‏(‏غطاء‏)‏ إلى ضمير الإنسان المخاطب للدلالة على اختصاصه به وأنه مما يعرف به‏.‏

وحدة البصر‏:‏ قوة نفاذه في المَرئي، وحدّة كل شيء قوةُ مفعوله، ومنه حدة الذهن، والكلام يتضمن تشبيه حصول اليقين برؤية المرئي ببصر قوي، وتقييده بقوله‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ تعريض بالتوبيخ، أي ليس حالك اليوم كحالك قبل اليوم إذ كنت في الدنيا منكراً للبعث‏.‏

والمعنى‏:‏ فقد شاهدتَ البعث والحشر والجزاء، فإنهم كانوا ينكرون ذلك كله، قالوا ‏{‏أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا المدينون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 53‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 59‏]‏ فقد رأى العذاب ببصره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

الواو واو الحال والجملة حال من تاء الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لقد كنت في غفلة من هذا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏ أيْ يوبخ عند مشاهدة العذاب بكلمة ‏{‏لقد كنتَ في غفلة من هذا‏}‏، في حال قول قرينه ‏{‏هذا ما لدي عتيد‏}‏‏.‏

وهاء الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏قرينه‏}‏ عائدة إلى ‏{‏كل نفس‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏ أو إلى الإنسان‏.‏

وقرين فَعيل بمعنى مفعول، أي مقرون إلى غيره‏.‏ وكأنَّ فعلَ قَرَنَ مشتق من القَرَن بالتحريك وهو الحبل وكانوا يقرنون البعير بمثله لوضع الهودج، فاستعير القرين للملازم‏.‏ وهذا ليس بالتفات إذ ليس هو تغيير ضمير ولكنه تعيين أسلوب الكلام وأعيد عليه ضمير الغائب المفرد باعتبار معنى ‏{‏نفس أي شخص، أو غلب التذكير على التأنيث‏.‏

واسم الإشارة في قوله‏:‏ هذا ما لديّ‏}‏ الخ، يفسره قوله‏:‏ ‏{‏ما لدي عتيد‏}‏‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مَا لدي‏}‏ موصولة بدل من اسم الإشارة‏.‏ و‏{‏لدي‏}‏ صلة، و‏{‏عتيد‏}‏ خبر عن اسم الإشارة‏.‏

واختلف المفسرون في المراد بالقرين في هذه الآية على ثلاثة أقوال‏:‏ فقال قتادة والحسن والضحاك وابن زيد ومجاهد في أحد قوليه هو المَلَك الموكل بالإنسان الذي يسوقه إلى المحشر أي هو السائق الشهيد‏.‏ وهذا يقتضي أن يكون القرين في قوله الآتي ‏{‏قال قرينه ربنا ما أطغيته‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 27‏]‏ بمعنى غير معنى القرين في قوله‏:‏ ‏{‏وقال قرينه هذا ما لدي عتيد‏}‏‏.‏

وعن مجاهد أيضاً‏:‏ أن القرين شيطان الكافر الذي كان يزين له الكفر في الدنيا أي الذي ورد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيّضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وعن ابن زيد أيضاً‏:‏ أن قرينه صاحبه من الإنس، أي الذي كان قرينَه في الدنيا‏.‏

وعلى الاختلاف في المراد بالقرين يختلف تفسير قوله‏:‏ ‏{‏هذا ما لدي عتيد‏}‏ فإن كان القرين الملَكَ كانت الإشارة بقوله ‏{‏هذا‏}‏ إلى العذاب الموكَّل به ذلك المَلكُ؛ وإن كان القرين شيطاناً أو إنساناً كانت الإشارة محتمِلة لأن تعود إلى العذاب كما في الوجه الأول، أو أن تعود إلى معاد ضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏قرينه‏}‏ وهو نفس الكافِر، أي هذا الذي معي، فيكون ‏{‏لديَّ‏}‏ بمعنى‏:‏ معي، إذ لا يخلو أحد من صاحببٍ يأنس بمحادثته والمراد به قرين الشرك المماثل‏.‏

وقد ذكر الله من كان قريناً للمؤمن من المشركين واختلاف حاليهما يوم الجزاء بقوله ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئِنّك لمن المصدقين‏}‏ الآية في سورة الصافات ‏(‏51، 52‏)‏‏.‏ وقول القرين هذا ما لدي عتيد‏}‏ مستعمل في التلهف والتحسر والإشفاق، لأنه لما رأى ما به العذاب علم أنه قد هُيّئ له، أو لمَّا رأى ما قدم إليه قرينه علم أنه لاحِق على أثره كقصة الثورين الأبيض والأحمر اللذين استعان الأسد بالأحمر منهما على أكل الثور الأبيض ثم جاء الأسد بعد يوم ليأكل الثور الأحمر فَعَلا الأحمر ربوة وصاح ألا إنما أكلت يومَ أكل الثور الأبيض‏.‏

وتقدم معنى ‏{‏عَتيد‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا لديه رقيب عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏، وهو هنا متعيّن للمعنى الذي فسر عليه المفسرون، أي مُعَدٌّ ومهيَّأ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

انتقال من خطاب النفس إلى خطاب الملكين الموكليْن السائق والشهيد‏.‏ والكلام مقول قول محذوف‏.‏ والجملة استئناف ابتدائي انتقال من خطاب فريق إلى خطاب فريق آخر، وصيغة المثنى في قوله‏:‏ ‏{‏ألْقِيا‏}‏ تجوز أن تكون مستعملة في أصلِها فيكون الخطاب للسائق والشهيد‏.‏ ويجوز أن تكون مستعملة في خطاب الواحد وهو الملك الموكّل بجهنّم وخُوطب بصيغةِ المثنّى جريْا على طريقة مستعملة في الخطاب جرت على ألسنتهم لأنهم يكثر فيهم أن يرافق السائرَ رفيقان، وهي طريقة مشهورة، كما قال امرؤ القيس‏:‏

قفا نبك من ذكرَى حبيب ومنزل *** وقولهم‏:‏ يا خليلَيَّ، ويا صاحبَيّ‏.‏ والمبرد يرى أن تثنية الفاعل نُزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما كأنه قيل‏:‏ ألْققِ ألْققِ للتأكيد‏.‏ وهذا أمر بأن يُعم الإلقاءُ في جهنم كلّ كفار عنيد، فيعلم منه كلُّ حاضر في الحشر من هؤلاء أنه مَدفوع به إلى جهنم‏.‏

والكفَّار‏:‏ القوي الكفر، أي الشرك‏.‏

والعنيد‏:‏ القوي العناد، أي المكابرة والمدافعة للحق وهو يعلم أنه مبطل‏.‏

والمنَّاع‏:‏ الكثير المنع، أي صد الناس عن الخير، والخير هو الإيمان، كانوا يمنعون أبناءهم وذويهم من اتباع الإيمان ومن هؤلاء الوليدُ بن المغيرة كان يقول لبني أخيه «من دخل منكم في الإسلام لا أنفعه بشيء ما عِشت»‏.‏ ويحتمل أن يراد به أيضاً منع الفقراء من المال لأن الخير يطلق على المال وكان أهل الجاهلية يمنعون الفقراء ويعطون المال لأكابرهم تقرباً وتلطفاً‏.‏

والمعتدي‏:‏ الظالم الذي يعتدي على المسلمين بالأذى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والقول الباطل‏.‏

والمريب الذي أراب غيره، أي جعله مرتاباً، أي شاكّا، أي بما يلْقُونه إلى الناس من صنوف المغالطة ليشككوهم في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة الإيمان والتوحيد‏.‏ وبين لفظي ‏{‏عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ و‏{‏عنيد‏}‏ الجناس المصحف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون اسم الموصول بدلاً من ‏{‏كَفَّار عنيد‏}‏ فإن المعرفة تبدل من النكرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك لتهْدِي إلى صراط مستقيم صراطِ الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52، 53‏]‏، على أن الموصول هنا تعريفه لفظي مجرد لأن معنى الصلة غير مخصوص بمعيّن، وأن قوله‏:‏ ‏{‏فألقياه‏}‏ تفريع على ‏{‏ألقِيا في جهنم كلّ كفار عنيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 24‏]‏ ومصبّ التفريع المتعلِّق وهو ‏{‏في العذاب الشديد‏}‏، أي في أشد عذاب جهنم تفريعاً على الأمر بإلقائه في جهنم تفريع بيان، وإعادة فعل ‏{‏ألقيا‏}‏ للتأكيد مع تفريع متعلق الفعل المؤكد‏.‏ وهذا من بديع النظم، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدَنا وقالوا مجنون وازدجر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 9‏]‏ ففرع على قوله‏:‏ ‏{‏كذّبت‏}‏ إلخ قوله‏:‏ ‏{‏فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر‏}‏‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنّهم بمفازة من العذاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏، فالمقصود بالتفريع هو قوله‏:‏ ‏{‏بمفازة من العذاب‏}‏ وإعادة ‏{‏تحسبنهم‏}‏ تفيد التأكيد، وعليه ف ‏{‏الذي جعل مع الله إلاها آخر‏}‏‏:‏ الكفّار المضاف إليه ‏{‏كلّ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 24‏]‏ فهو صادق على جماعة الكفّارين فضمير النصب في ‏{‏ألقيناه‏}‏ بمنزلة ضمير جمع، أي فألقياهم‏.‏

ويجوز أن يكون اسم الموصول مبتدأ على استئناف الكلام ويضمّن الموصول معنى الشرط فيكون في وجود الفاء في خبره لأجل ما فيه من معنى الشرط وهذا كثير‏.‏ والمقصود منه هنا تأكيد العموم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كل كفّار عنيد‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

حكاية قول القرين بالأسلوب المتبع في حكاية المُقاولات في القرآن وهو أسلوب الفصل دون عطف فعل القول على شيء، وهو الأسلوب الذي ذكرناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعلُ فيها من يُفسد فيها‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏، تشعر بأن في المقام كلاماً مطوياً هو كلام صاحب القرين طوي للإيجاز، ودليله ما تضمنه قول القرين من نفي أن يكون هو أطغى صاحبه إذ قال ربَّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد‏}‏‏.‏ وقد حكي ذلك في سورة ص صريحاً بقوله‏:‏ ‏{‏هذا فوج مقتحم معكم لاَ مَرْحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قَدّم لنا هذا فزِده عذاباً ضعفاً في النار‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 59 61‏]‏‏.‏ وتقدير المطوي هنا‏:‏ أن الكَفَّار العَنيد لما قدم إلى النار أراد التنصل من كُفره وعناده وألقى تبعته على قرينه الذي كان يزيّن له الكفر فقال‏:‏ هذا القرينُ أطغاني، فقال قرينه ‏{‏ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد‏}‏‏.‏ فالقرين هذا هو القرين الذي تقدم ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وقال قرينه هذا ما لدي عتيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والطغيان‏:‏ تجاوز الحدّ في التعاظم والظلم والكفر، وفعله يائي وواوي، يقال‏:‏ طَغِيَ يطغَى كرضِيَ، وطغَا يطغُو كدعا‏.‏ فمعنى ‏{‏ما أطغيته‏}‏ ما جعلته طاغياً، أي ما أمرته بالطغيان ولا زينته له‏.‏ والاستدراك ناشئ عن شدة المقارنة بينه وبين قرينه لا سيما إذا كان المراد بالقرين شيطانه المقيَّض له فإنه قرن به من وقت إدراكه، فالاستدراك لدفع توهم أن المقارنة بينهما تقتضي أن يكون ما به من الطغيان بتلقين القرين فهو ينفي ذلك عن نفسه، ولذلك أتبع الاستدراك بجملة ‏{‏كان في ضلال بعيد‏}‏ فأخبَر القرين بأن صاحبه ضالُّ من قبلُ فلم يكن اقترانه معه في التقييض أو في الصحبة بزائد إياه إضلالاً، وهذا نظير ما حكاه الله عن الفريقين في قوله‏:‏ ‏{‏إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعُوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏‏.‏ وفعل ‏{‏كان‏}‏ لإفادة أن الضلال ثابت له بالأصالة ملازم لتكوينه‏.‏

والبعيد‏:‏ مستعار للبالغ في قوة النوع حدًّا لا يَبلغ إليه إدراك العاقِل بسهولة كما لا يبلغ سيرُ السائر إلى المكان البعيد إلا بمشقةٍ أو بعيد الزمان، أي قديم أصيل فيكون تأكيدا لمفاد فعل ‏{‏كان‏}‏، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏116‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنَّ تمكُّن الضلال منه يدل على أنه ليس فيه بتابع لما يمليه غيره عليه لأن شأن التابع في شيء أن لا يكون مكيناً فيه مثل علم المقلد وعلم النظَّار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

هذا حكاية كلام يصدر يومئذٍ من جانب الله تعالى للفريقين الذي اتَّبعوا والذين اتُّبعوا، فالضمير عائد على غير مذكور في الكلام يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فكشفنا عنكَ غطاءك‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وعدم عطف فعل ‏{‏قال‏}‏ على ما قبله لوقوعه في معرض المقاولة، والتعبير بصيغة الماضي لتحقق وقوعه فقد صارت المقاولة بين ثلاثةِ جوانب‏.‏

والاختصام‏:‏ المخاصمة وهو مصدر بصيغة الافتعال التي الأصل فيها أنها لمطاوعة بعض الأفعال فاستعملت للتفاعل مثل‏:‏ اجتوروا واعتوروا واختصموا‏.‏

والنهي عن المخاصمة بينهم يقتضي أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطْغَوْها، وأن القرناء تنصلوا من ذلك وأن النفوس أعادت رَمي قرنائها بذلك فصار خصاماً فلذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تختصموا لدى‏}‏ وطوي ذكره لدلالة ‏{‏لا تختصموا‏}‏ عليه إيثارا لحق الإيجاز في الكلام‏.‏ والنهي عن الاختصام بعد وقوعه بتأويل النهي عن الدوام عليه، أي كفوا عن الخصام‏.‏

ومعنى النهي أن الخصام في ذلك لا جدوى له لأن استواء الفريقين في الكفر كاففٍ في مؤاخذة كليهما على السواء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏، وذلك كناية عن أن حكم الله عليهم قد تقرر فلا يفيدهم التخاصم لإلقاء التبعة على أحد الفريقين‏.‏

ووجه استوائهما في العذاب أن الداعي إلى إضلاله قائم بما اشتهته نفسه من ترويج الباطل دون نظر في الدلائل الوزاعة عنه وأن متلقّي الباطل ممن دعاه إليه قائم بما اشتهته نفسه من الطاعة لأيمة الضلال فاستويا في الداعي وترتُّب أثره‏.‏

والواو في ‏{‏وقد قدمت‏}‏ واو الحال‏.‏ والجملة حال من ضمير ‏{‏تختصموا‏}‏ وهي حال معللة للنهي عن الاختصام‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تطمعوا في أنّ تدافعكم في إلقاء التَبعة ينجيكم من العقاب بعد حال إنذاركم بالوعيد من وقت حياتكم فما اكترثتم بالوعيد فلا تلوموا إلا أنفسكم لأن من أنذر فقد أعذر‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وقد قدمت إليكم بالوعيد‏}‏ كناية عن عدم الانتفاع بالخصام كون العقاب عدلاً من الله‏.‏ والباء في ‏{‏بالوعيد‏}‏ مزيدة للتأكيد كقوله‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وقد قدمت إليكم الوعيد قبل اليوم‏.‏

والتقديم‏:‏ جَعْل الشيء قدام غيره‏.‏

والمراد به هنا‏:‏ كونه سابقاً على المؤاخذة بالشرك لأن الله توعدهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم فالمعنى الأول المكنّى عنه بُيِّن بجملة ‏{‏ما يبدل القول لدى‏}‏، أي لست مبطلاً ذلك الوعيد، وهو القول، إذ الوعيد من نوع القول، والتعريف للعهد، أي فما أوعدتكم واقع لا محالة لأن الله تعهد أن لا يغفر لمن يشرك به ويموت على ذلك‏.‏ والمعنى الثاني المكنَّى عنه بُين بجملة ‏{‏وما أنا بظلام للعبيد‏}‏، أي فلذلك قدمت إليكم الوعيد‏.‏

والمبالغة التي في وصف ‏{‏ظلاّم‏}‏ راجعة إلى تأكيد النفي‏.‏

والمراد‏:‏ لا أظلم شيئاً من الظلم، وليس المعنى‏:‏ ما أنا بشديد الظلم كما قد يستفاد من توجُّه النفي إلى المقيّد يفيد أن يتوجه إلى القيد لأن ذلك أغلبي‏.‏ والأكثر في نفي أمثلة المبالغة أن يقصد بالمبالغة مبالغة النفي، قال طرفة‏:‏

ولسْتُ بحَلاَّل التلاع مخافة *** ولكن متى يسترفد القوم أرفِد

فإنه لا يريد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي‏.‏

وذكر الشيخ في «دلائل الإعجاز» توجه نفي الشيْء المقيد إلى خصوص القيد كتوجّه الإثبات سواء، ولكن كلام التفتزاني في كتاب «المقاصد في أصول الدين» في مبحث رؤية الله تعالى أشار إلى استعمالين في ذلك، فالأكثرُ أن النفي يتوجه إلى القيد فيكون المنفي القيد، وقد يعتبر القيد قيداً للنفي وهذا هو التحقيق‏.‏ على أني أرى أن عَدّ مثل صيغة المبالغة في عِداد القيود محل نظر فإن المعتبر من القيود هو ما كان لفظاً زائداً على اللفظ المنفي من صفة أو حال أو نحو ذلك، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال‏:‏ لست ظَلاّماً، ولكن أظلم، ويحسن أن يقال لا آتيك محارباً ولكن مسالماً‏.‏

وقد أشار في «الكشاف» إلى أن إيثار وصف ‏{‏ظَلاّم‏}‏ هنا إيماء إلى أن المنفي لو كان غير منفي لكان ظلماً شديداً فيفهم منه أنه لو أخذ الجاني قبلَ أن يَعرَّف أن عمله جناية لكانت مؤاخذته بها ظلماً شديداً‏.‏ ولعل صاحب «الكشاف» يرمي إلى مذهبه من استواء السيئات، والتعبير بالعبيد دون التعبير بالناس ونحوه لزيادة تقرير معنى الظلم في نفوس الأمة، أي لا أظلم ولو كان المظلوم عبدي فإذا كان الله الذي خلق العباد قد جعل مؤاخذة من لم يسبق له تشريع ظلماً فما بالك بمؤاخذة الناس بعضهم بعضاً بالتبعات دون تقدّم إليهم بالنهي من قبل، ولذلك يقال‏:‏ لا عقوبة إلا على عمل فيه قانون سابق قبل فعله‏.‏